التعارض بين شرط التحكيم وبند الاختصاص القضائي في وثائق التأمين البحري والنقل:
في إطار رسالتنا القانونية الهادفة الي نشر الوعي وتعزيز الثقافة القانونية وتحليل القوانين
واألنظمة والقضايا المعاصرة في المجتمع نقدم لكم زاويتنا األسبوعية بعنوان :
التعارض بين شرط التحكيم وبند الاختصاص القضائي في وثائق التأمين البحري والنقل:
رؤية قانونية تحليلية(
في عالم التجارة والنقل الدولي، حيث تتقاطع القوانين الدولية والمصالح االقتصادية، تكمن
تفاصيل صغيرة قد تغير مسار نزاع بأكمله، وبرزت أمامنا مسالة قانونية دقيقة تتعلق
بالتعارض بين شرط التحكيم وبند االختصاص القضائي في وثائق تأمين النقل، تبدو المسألة
للوهلة األولى بسيطة ، لكنها في الواقع تمس جوهر اإلرادة التعاقدية لألطراف وتحدد الجهة
التي ستفصل في النزاع هل هي هيئة التحكيم أم المحكمة المختصة؟ ومن هنا، جاءت أهمية
هذا المقال األسبوعي لعرض اإلشكال وتحليله في ضوء القواعد القانونية والسوابق القضائية،
مع تقديم رؤية عملية تساعد الشركات والمؤمن لهم على تجنب الوقوع في هذا النوع من
تناقضات الصياغة التي قد تكلفهم الكثير .
تعد وثائق التأمين على النقل سواء البري أو البحري أو الجوي، من أكثر العقود تعقيدا من
الناحية القانونية، نظرا لتعدد أطرافها وتداخل القوانين التي تحكمها، فضال عن طبيعة
المخاطر التي تغطيها، ومن أبرز اإلشكاالت التي تثار في هذا النوع من العقود، التعارض
بين شرط التحكيم المنصوص عليه في الوثيقة، وبين بند آخر يشير إلى االختصاص القضائي
والقانون الواجب التطبيق عند نشوء النزاع .
في العديد من وثائق التأمين، نجد أن الوثيقة تتضمن، شرط تحكيم ينص على أن أي نزاع
ينشأ بين المؤمن والمؤمن له يُحال إلى التحكيم وفق قواعد معينة، وفي الوقت ذاته، تتضمن
الوثيقة بند آخر يحدد المحكمة المختصة أو ينص على خضوع العقد لقانون دولة معينة، هذا
التعايش بين الشرطين يثير تساؤل جوهري، هل يعتد بشرط التحكيم بوصفه اتفاق نهائي مانع
للجوء إلى القضاء، أم يعتبر بند االختصاص الالحق قرينة على نية األطراف العدول عن
التحكيم؟
من حيث األصل يعتبر شرط التحكيم اتفاق مستقل عن بنود العقد األخرى، وفقا لمبدأ
استقاللية شرط التحكيم، فال يلغى إال بنص صريح أو باتفاق الحق واضح بين الطرفين،
وبالتالي، وجود بند الحق يشير إلى االختصاص القضائي دون أن يتضمن عب ارة صريحة
بعدم االعتداد بشرط التحكيم، ال يعد كافي إلهدار شرط التحكيم، و من حيث نية األطراف
فالقاعدة العامة تقول إن العبرة بما اتفق عليه األطراف صراحة، فإذا كان النص على التحكيم
واضح ومحدد، مثال يحال النزاع إلى التحكيم، فإن اإلشارة الالحقة إلى المحكمة المختصة
تفسر على أنها متعلقة باإلجراءات التحفظية أو التنفيذية فقط، وليس بنظر النزاع األصلي،
ومن حيث النص على القانون الواجب التطبيق، ال يتعارض مع شرط التحكيم، إذ أن
المحكمين أنفسهم يحتاجون إلى تحديد القانون الذي يطبق على موضوع النزاع من خالل
مشارطة التحكيم، وبالتالي، هذا التحديد يعد مكمل آللية التحكيم وليس متناقض معها.
اخيرا البد من ضرورة أن تتوخى شركات التأمين الدقة في صياغة وثائقها لتجنب التناقض
بين بنود التحكيم واالختصاص، وعلى المؤمن له أو المستفيد قراءة الوثيقة بعناية والتأكد من
فهم آلية تسوية النزاع قبل التوقيع، وفي حال وجود ت عارض، ينصح بالرجوع إلى مبدأ تغليب
شرط التحكيم ما لم يوجد ما يدل على العكس بشكل ال لبس فيه.
أخيرا يظهر التحليل أن التعارض الظاهري بين شرط التحكيم وبند االختصاص القضائي في
وثائق التأمين ليس أكثر من نتيجة لصياغة متسرعة أو غير منسقة، ال انعكاس إلرادة
متناقضة، فمتى كان شرط التحكيم واضح وصريح، ظل هو األصل الملزم للطرفين، بينما
تفسر اإلشارات إلى االختصاص القضائي على أنها مكملة أو موجهة لإلجراءات التحفظية
والتنفيذية، إن حماية اإلرادة التعاقدية واحترام اتفاق التحكيم يمثالن أساس العدالة التعاقدية
الحديثة، وهو ما أكدت عليه أغلب المحاكم وهيئات التحكيم الدولية، ولذلك، فإن الدقة في
صياغة وثائق التأمين، والتفكير المسبق في آلية تسوية النزاع، ليست مجرد مسألة فنية، بل
خط دفاع قانوني استراتيجي يحمي حقوق األطراف قبل وقوع الخالف.
في نهاية المطاف، يظل التحكيم أداة العدالة السريعة التي تواكب حركة التجارة الحديثة، لكن
هذه العدالة ال تتحقق إال بصياغة دقيقة وواضحة، تعبر عن إرادة األطراف دون لبس أو
تناقض، فكلمة واحدة في وثيقة التأمين قد تفتح باب نزاع طويل، أو قد تغلقه من بدايته.
ومن هنا، ننصح جميع المتعاملين في مجال النقل والتأمين، بأن يراجعوا دائما بنود التحكيم
واالختصاص بعين فاحصة، ألن التحكيم ليس مجرد بند في العقد، بل هو قرار استراتيجي
يحدد الطريق إلى العدالة قبل أن يبدأ النزاع.

